كان الحلم يتكرر… لا بالصورة نفسها، بل بالإحساس ذاته
ملامح مجهولة تظهر في منامي، تلتصق بي للحظات، ثم تذهب، تاركة خلفها دفئًا غريبًا وحنينًا مباغتًا يفيض من قلبي كالموج.
مشاعر جميلة ، صادقة ، حقيقية بشكل غريب،كأنها هبطت من بعدٍ آخر لا تحكمه القوانين… فقط الحب.
طفلٌ لا أعرف له اسمًا، ولم يسبق لي أن رأيته في حياتي،
يحدّق في وجهي بنظرات دافئة كأنني أنتمي إليه منذ الأزل،
ويعانقني كما لو كنتُ ملاذه الوحيد في هذا العالم.
في كل مرة أستيقظ، يراودني ذلك الفراغ الغريب…
كأن شيئًا من روحي قد استُدعي للحياة، فقط ليُسلب من جديد.
كأن بين ضلوعي ذكرى حب بلا ملامح،
إحساسٌ وُلد في قلبي، بلا جسد يحتضنه…
ثم جاء من انتزعه مني دون موافقتي
وتركَني وحيدة… مع هذا الحنين الذي لا أعرف مصدره، ولا أستطيع فهمه.
لماذا أشعر بالإنتماء لهم؟
ما سبب هذه الألفه؟
هل هي رغبة دفينة في الأمومة؟
أم أنه نداءًا خفيًا استيقظ قبل أن يحين اوانه؟
فتحت أبواب البحث… بين تفسيرات الأحلام، والنظريات النفسية، وحتى المعتقدات القديمة،
لكن كل ما اجده هو اجابه مقتضبه :
" الرغبة في الأمومة "
لكن لا، هذا لا يكفي…
تفسير سطحي كهذا لا يحتمل كل هذا الاتساع، كل هذا العمق الشعوري الذي تتركه تلك الأحلام.
ولهذا كتبت هذا المقال…
رحلة روحية، وجدانية، وعلمية
في محاولة لفهم:
نداء الأمومة.
لم أكن الوحيدة…
تبيّن لي أن كثيرًا من النساء حول العالم اختبرن هذا الشعور الغامض.
في دراسة نشرتها المجلة الدولية لعلم النفس التحليلي، لوحظ أن نسبة من النساء أبلغن عن أحلام تحتوي رموزًا أمومية قبل أي تفكير جاد في الإنجاب.
ما سر هذا الحلم المتكرر؟
هذا النمط المتكرر الذي ترويه نساء من خلفيات وثقافات مختلفة، أثار اهتمام باحثين وعلماء نفس وروحانيين على حد سواء، حتى أصبح موضوعًا للدراسة والتفسير من عدة زوايا:
أولًا: من زاوية علم النفس
يُفسّر علماء النفس هذا الحلم بأنه إسقاط داخلي لرغبة الأمومة الكامنة، والتي قد تتشكل منذ الطفولة عند بعض الفتيات.
يقول سيغموند فرويد إن الأحلام غالبًا ما تعبّر عن رغبات لم تجد طريقها للواقع بعد.
لكن بعض المحللين النفسيين الأحدث مثل كارل يونغ يوسّعون النظرة؛ فيرون أن الطفل في الحلم لا يمثّل فقط “الرغبة”، بل يرمز إلى بُذرة الذات، إلى شيء قادم من اللاوعي، يُبشّر بولادة مرحلة جديدة في النفس.
ثانيًا: من الناحية البيولوجية
تشير أبحاث في علم الأعصاب أن الدماغ الأنثوي يُعاد تشكيله أثناء التحوّل نحو الأمومة، حتى قبل الحمل.
وفي دراسة نشرتها مجلة Nature Neuroscience، وُجد أن مناطق معينة في دماغ المرأة تتغيّر مع بداية الاستعداد للأمومة – بما في ذلك التخيل الحسي لطفل أو الشعور بارتباط غريزي تجاهه، حتى في غيابه المادي.
بعبارة أخرى:
الجسد والروح قد يبدآن استقبال فكرة الأمومة قبل أن تُصبح واقعًا، والحلم وسيلة من وسائل العقل لإعداد النفس لهذه المرحلة.
ثالثًا: في الثقافة والروحانيات
في بعض الثقافات والفلسفات الروحية، تُروى قصص عن “أرواح الأطفال” التي تلتقي بأمهاتها أو تزورهن في الأحلام قبل أن تبدأ الحياة المادية، كأن هناك رابطًا عميقًا يسبق الوجود.
أما في الإسلام، فقد ورد في الحديث الشريف أن “الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”. وقد فسّر بعض العلماء هذا الحديث بأن الأرواح خُلقت قبل الأجساد، وكانت تلتقي في عالم الغيب وتتآلف أو تتنافر، ثم حين نزلت إلى الأجساد في الحياة الدنيا، استأنفت علاقاتها بناءً على ما سبق من ذلك العهد القديم.
ربما، قبل أن يولد الطفل، تتآلف روحه مع روح والدته لأنهما “جنود” تعارفا في عالم ما قبل الحياة، فتتولد بينهما رابطة داخلية قوية جدًا، تجعل الأم تشعر بارتباط عميق حتى لو لم تلتقِ به في العالم المادي بعد.
ذلك التلاقي المسبق لا ينبع من اختيار، بل من قدر إلهي سابق، يجعل من بعض العلاقات أمرًا مفطورًا في النفس قبل أن تُدركه العين أو تلمسه اليد.
كل هذه التفسيرات – العلمية، النفسية
، والروحية – لا تنفي بعضها، بل تُضيء جوانب مختلفة من نفس الظاهرة.
ثالثًا: حين تزورنا ارواح الأطفال في المنام
وهنا تبدأ القصص التي يصعب تصنيفها، لكنها كثيرة بشكل يصعب تجاهله.
• في دراسة غير رسمية أجرتها الباحثة Sheila Heti ضمن مشروعها عن “تجربة الأمهات قبل الحمل”، قابلت نساء حلمن بأطفال معينين قبل أن يحملن بهم، بل وصفت بعضهن شكل الطفل أو اسمه أو طاقته العاطفية — وحين وُلد الطفل، كان مطابقًا لما رأينه في الحلم.
• في منتديات مثل BabyCenter وWhatToExpect، آلاف النساء شاركن شهادات شخصية عن “الطفل الذي زارهن في المنام”، بعضهن ذكرن:
“كنت أحلم به دومًا، بنفس العينين الزرقاوين، والشعر الكثيف… وعندما رأيته بعد الولادة، عرفت أنه هو.”
• حتى في بعض الروايات العربية، تقول أم:
“كنت أراه في المنام منذ سنوات… كنت أعانقه وأخاف عليه وأشعر أنه ابني… ثم حملت فجأة، وحين رأيته بعد الولادة، شعرت أني أعرفه منذ زمن. لم يكن غريبًا عليّ.”
هل نحن نولد بأرواح امهات ؟
قد لا يبدأ شعور الأمومة مع الحمل فقط، ولا يولد دائمًا لحظة احتضان الطفل، بل هناك فتيات ينبض فيهن هذا الشعور منذ سن مبكرة. يلازمهن إحساس داخلي بالحنان والمسؤولية، وكأن قلوبهن فُطرت على العطاء قبل أن يُطلب منهن ذلك. في ألعابهن، في خيالهن، في طريقة حملهن للدمى، جميع تلك المشاهد تومض بشرارات أمومة .
وقد تناولت بعض الدراسات هذا الحنين المبكر، الذي يظهر لدى بعض الفتيات تجاه فكرة الأمومة، حتى قبل أن يخضن أي تجربة واقعية تمهّد له…
تقول بعض الدراسات النفسية الحديثة إن “الحنين للأمومة” حالة شعورية حقيقية تظهر لدى بعض النساء منذ سن مبكرة، حتى دون وجود محفز بيولوجي مثل الحمل أو الزواج. وقد يكون هذا الحنين مرتبطًا ببنية نفسية عميقة، تجعل بعض الأرواح تولد مبرمجة على العطاء، كما لو أن الحب فيها يبدأ من الداخل، لا من التجربة.
“بعض القلوب تولد مهيأة للحب، وبعض الأرواح تتوق للعطاء، وكأنها وُجدت لتُكمّل نقصًا في أرواح الآخرين.”
الأمومة الحقيقية لا تبدأ من نبض الجنين… بل من نبض داخل قلب هذه الفتاة اولًا. من حنوّ يتدفق لا إراديًا، من ارتجافة قلب حين ترى طفلًا يضحك، أو يبكي، أو حتى يسير بخطى صغيرة.
أثبتت دراسة في جامعة إيموري الأميركية أن مجرد رؤية صور لأطفال رُضّع يمكن أن يُنشّط مناطق معينة في دماغ المرأة، تحديدًا في منطقة “النواة المتكئة” المرتبطة بالتحفيز والمكافأة، مما يؤدي إلى إفراز هرمون الأوكسيتوسين – وهو الهرمون المعروف بهرمون الحب أو الارتباط.
عادةً ما يرتفع هذا الهرمون لدى الأمهات أثناء الولادة والرضاعة، لأنه يرتبط بمشاعر الحميمية والانتماء، لكن المفاجأة أن بعض النساء يُفرزن هذا الهرمون حتى من دون أن يكنّ أمهات… يكفي أن يتخيلن وجود طفل، أو أن يحضنَّ طفلًا غريبًا لبضع دقائق، حتى تنشط في داخلهن كيمياء الأمومة!
ويفسّر علماء النفس هذه الظاهرة بعدة أسباب:
• أحيانًا نرى في الأطفال العابرين انعكاسًا لطفولتنا نحن… فننحني غريزيًا لنحتويهم، كما لو كنا نحتوي ذواتنا القديمة.
• وأحيانًا، نشعر أننا نرى فيهم أطفالنا المستقبليين. فتنبض في داخلنا مشاعر أمومة لم تولد بعد في الجسد، لكنها حيّة جدًا في الروح.
هذه المشاعر لا تقتصر على الأمومة البيولوجية فقط، بل هي إحساس جوهري ينبع من سعة القلب والحنان. قد تنمو هذه المشاعر تجاه طفل يُحتضن ويُراعى كيتيم، أو حتى طفل غريب يلامس شيئًا عميقًا في القلب. فالمفتاح ليس في القرابة أو الدم، بل في القدرة على الشعور والاحتضان.
هؤلاء النساء لا يتخيّلن الأمومة… هنّ يعيشنها روحيًا، ويختبرن شذرات منها في لحظات غير متوقعة. واحدة ترى طفلاً يتعثر فتهرع إليه، وأخرى تتأمل ملامح صغيرة وتشعر أن قلبها يشتعل حنانًا، وثالثة تبكي حين تسمع بكاء طفل لا تعرفه، دون سبب واضح سوى أنها وُلدت بروح أم.
لماذا تُحب الأم أكثر؟ (سرّ الأوكسيتوسين)
قد يبدو حب الأم لأطفالها أعمق من حب الأب، وعلاقتها بهم أكثر التصاقًا، وهذا ليس مجرد وصف مبالغ فيه أو دور اجتماعي فحسب، بل هو ارتباط ينبع من جذور بيولوجية عميقة.
أولًا: ما هو هرمون الأوكسيتوسين؟
يُعرف بـ”هرمون الحب” أو “هرمون الترابط”، وهو يُفرز من الدماغ (تحديدًا من تحت المهاد Hypothalamus ثم يُطلق من الغدة النخامية).
وظيفته الأساسية هي تسهيل الترابط والعاطفة، ويُفرز بكميات كبيرة في ثلاث حالات أساسية:
• عند الولادة: لتسهيل الانقباضات.
• أثناء الرضاعة: لمساعدة الحليب على الخروج، وتعميق الرابطة بين الأم والرضيع.
• أثناء التواصل الحميمي أو المشاعر العاطفية: كالعناق، النظر في العيون، أو حتى الشعور بالحب.
لماذا يُفرز عند النساء أكثر من الرجال؟
1. الاختلاف البيولوجي
النساء لديهن حساسية أعلى للأوكسيتوسين بسبب تركيبة الدماغ ومستقبلات هذا الهرمون، ما يجعل تأثيره أقوى حتى عند إفراز كميات صغيرة.
بمعنى آخر: الدماغ الأنثوي مهيّأ للتفاعل معه بشكل أعمق.
2. الدورة الهرمونية الأنثوية
الاستروجين (الهرمون الأنثوي الرئيسي) يُعزز إنتاج الأوكسيتوسين ويزيد من فعاليته، بعكس التستوستيرون (هرمون الذكورة) الذي يقلل من تأثيره.
وهذا ما يجعل المرأة تميل أكثر إلى الترابط العاطفي.
3. التجربة الجسدية للأمومة
الحمل، الولادة، الرضاعة—all are biologically designed لخلق رابطة قوية مع الطفل، يتم تعزيزها بشحنات من الأوكسيتوسين.
تُفرز هذه الكميات على دفعات تُشبه موجات الحب المتكررة… تُغرق الأم في عاطفة لا تُضاهى.
عوامل تقوّي رابط الأمومة
1. الربط الهرموني
كما ذكرنا، الأوكسيتوسين يُفرز عند ملامسة الطفل، إرضاعه، أو حتى عند تخيّله.
هذه الجرعات المتكررة تجعل علاقة الأم بالطفل أشبه بحبل غير مرئي مشحون بالعاطفة، يتعمق مع كل تواصل.
2. الاحتضان والتلامس الجسدي
الدراسات أثبتت أن مجرد حمل الأم لطفلها يزيد الأوكسيتوسين لديها ولدى الطفل.
هذا التلامس المتكرر يُرسّخ العلاقة العصبية والعاطفية بينهم.
3. الذاكرة الشعورية والجسدية
الأم تحمل الطفل في رحمها، تسمع نبضه، وتشعر بحركاته… هذه التجارب تُنقش في الذاكرة الجسدية، ويصعب أن ينافسها أي شعور آخر.
4. الحماية والتضحية
تكوين الأم الجسدي والنفسي مهيأ للبذل: وقتًا، وجهدًا، ومشاعر.
ومع كل تضحية، تزداد الرابطة عمقًا. وهنا، لا يعود الحب مجرد غريزة… بل يصبح اختيارًا متجددًا كل يوم.
ولا يقتصر عمق رابطة الأمومة على الشعور والذاكرة وحدهما، بل يمتد ليترك أثرًا بيولوجيًا حقيقيًا في جسد الأم.
فقد وجدت الدراسات أن خلايا الجنين لا تختفي تمامًا بعد الولادة، بل تظل تعيش داخل جسد أمه في ظاهرة تُعرف بـ”التبادل الخلوي الجنيني” (Microchimerism).
بعض هذه الخلايا تنتقل إلى أعضاء مختلفة، كالدماغ والقلب والكبد، وتبقى فيها لسنوات، بل أحيانًا مدى الحياة.
وقد وُجدت خلايا جنينية تحمل بصمة الذكور في أجساد أمهات أنجبن أولادًا، حتى بعد مرور عقود.
وكأن الأم، بعد كل ولادة، لا تودّع طفلها بالكامل… بل يحتفظ جسدها بجزءٍ منه، يسكنها، ويحفظ النداء الأول للحب.
النساء لا يشعرن بعمق بسبب دورهن الاجتماعي وحسب ، بل لأن أجسادهن وأدمغتهن مُبرمجة بيولوجيًا وروحيًا لهذا الدور.
وإن بدا حب الأم أقوى، فذلك لأن علاقتها بالطفل تتغذى من الداخل:
من رحمها، من دمها، من صدرها، ومن قلبها… وكل ذلك مشبع بهرمون صنع خصيصًا ليُعمّق الروابط ويجعلها لا تُنسى
الخاتمة:
ربما لسنا بحاجة لأن نُنجب لنشعر بالأمومة، فثمة أرواح خُلِقت وهي تحمل بذرة الحنان، تنبض بالعطاء، وتتشكل داخلها ملامح الحب غير المشروط، قبل أن يُعطى لها طفل وقبل أن تُسند لها مسؤولية.
قد تكون هذه الأحلام رسائل من أعماقنا، أو نداء من المستقبل، أو صدى لطفل لم يولد بعد لكنه يسكننا منذ زمن.
فإن شعرتِ يومًا أنك تُحبين طفلًا لم تلديه، أو تشتاقين لطفل لا تعرفينه، فتذكّري أن الأمومة ليست دائمًا حدثًا جسديًا… بل قد تكون نداءً روحيًا، أو قدرًا في طور التشكل، أو ببساطة: جزءًا أصيلًا من حقيقتكِ.
أنتِ لا تتوهمين… أنتِ تشعرين بصدق.
و تبقى مشاعر الأمومة من أعمق ما يمكن أن تختبره النفس البشرية….